مكالمة بعد منتصف الليل الجزء الأول

يكتبها: وائل جنيدي

بعدما انتصف ليل القاهرة بقليل في ليلة شتوية قارسة البرودة قاتمة الأجواء نادرا ما تتكرر

في مصر  دق هاتفي بإلحاح فلم أجد في نفسي اقل رغبة في أن أحرك يدي من تحت الغطاء

لأعرف من المتصل.

تداخلت أصوات الرنين من هاتفي والتي كانت أغنية رومانسية لإحدى المطربات الساحرات

الصوت مع شيء من الحلم غير الواضح حتى توقف الرنين ولا تزال الأغنية تتردد في حلمي

بدأت اغرق في عمق النوم من جديد وما هي إلا لحظات حتى عادت الأغنية تتردد من جديد

كافحت حتى أخرجت يدي من أسفل الغطاء الناعم الدافئ ومددتها نحو الهاتف لأجد أن المتصل

هو أحمد ابن عمتي والذي ليس بيني وبينه علاقة تذكر فلا نتقابل إلا في المناسبات قفزت إلى

عقلي فكرة سريعة انه لابد أن عمتي قد توفيت

ولكن هذه ليست ساعة مناسبة للوفاة على أي حال ، وحتى إذا توفيت الآن فلماذا يزعجني

ابنها في مثل هذه الساعة ؟ هل يظن أني قد أعيدها للحياة مثلا ؟

ضغطت بأصابعي المرتجفة على الشاشة ووضعت الهاتف على أذني قائلا :-

مرحبا يا أحمد وأنا أتوقع سيناريو المكالمة وما قد يقال

ولدهشتي لم اسمع صوت أحمد  بل لم اسمع احد يكلني من الأساس إنما سمعت

أصواتا مختلطة كأنما اتصل الهاتف بالخطأ وهو في جيب أحدهم كانت أصوات صياح وضوضاء

وصوت واضح للهواء مما يوحي أن المكالمة تجري من مكان مفتوح

ولأن اسمي إبراهيم وهو غالبا ما يكون في قمة جهات الاتصال على أي هاتف فغالبا ما

تصلني الكثير من المكالمات والرسائل عن طريق الخطأ مما يسبب لي وللمتصل حرجا كبيرا غالبا

أرهفت سمعي وأنا أفرك عيني لأحاول أن أتبين ماهية الأصوات التي تصلني فلم أصل لشيء

فأغلقت المكالمة من طرفي آملا في العودة للنوم العميق بعد أن كادت أن تستيقظ حواسي تماما

وتنتبه وقد غفوت فورا كأني لم استيقظ أبدا .

استيقظت في الصباح متكاسلا كعادتي ونهضت من الفراش مترنحا نحو المطبخ لأعد لنفسي فنجانا من القهوة .

آه .. يا لوقاحتي فلم أعرفكم بنفسي !

أدعى إبراهيم أبو كامل وأنا صحفي تحقيقات في جريدة اليوم الدولي .

أعزب كما هو واضح وأعيش بمفردي في إحدى المناطق شبه الراقية على أطراف القاهرة

وليس هناك معلومات أكثر من هذا أجد انه من الضروري تقديمها إليكم سوى أني أجد نفسي

وسيما بشكل كبير وهو ما لا يوافقني عليه الجنس اللطيف عموما

وحيث أني قد حصلت قريبا على ترقية في قسم التحقيقات فكان لزاما علي أن أكون ملتزما

بمواعيدي واترك عادتي في التزويغ وهو الأمر الذي أحاول الاعتياد عليه

أفقت من شرودي على غليان القهوة كالعادة فدائما ما تفوتني تلك اللحظة الفارقة

بين القهوة الشهية وهذا السائل الذي احتسيه كل صباح

أخذت قهوتي متوجها للصالة لأتابع الأخبار الصباحية في الفضائيات سريعا قبل أن أتجهز للخروج

ألقيت نظرة سريعة على الساعة المعلقة على الجدار فإذا هي التاسعة صباحا .

يا إلهي .. كيف نمت كل هذا ؟ لقد خلدت للنوم أمس في حدود العاشرة

سمعت فجأة رنة هاتفي تتعالى من غرفة النوم فأسرعت لأجيب فإذا هو رقم غير مسجل

ولم يظفر به برنامج كشف الأرقام المعروف على الهاتف

ثم دققت في الرقم فانتبهت إلى انه رقم ارضي

ألو … من المتحدث ؟

فإذا بصوت خشن حكومي النبرة يقول

أنت إبراهيم أبو كامل ؟ أجبت على الفور وقد استحثت النبرة فضولي نعم أنا هو فقال بشكل شبه

إلي عليك أن توافينا في المباحث اليوم للضرورة

فاستأنفت حديثي بالطريقة العملية لصحفي تحقيقات ..خيرا؟

فأجاب بجمود ستعرف كل شيء حينما تقابل حازم بك رئيس المباحث

فقلت مترددا وفي أي ساعة ؟ فقال تمام الثالثة سيكون حازم بك في مكتبه

قلت سأكون في الموعد

بصفتي الصحفية لي الكثير من المعارف والأصدقاء في دوائر الشرطة وأنا كذلك لست ممن

يرهبون التعامل مع الأمن ولكن طريقة الاستدعاء تبدو لي غريبة إلى حد مربك كذلك فانا اعرف

رئيس المباحث وكان اسمه كريم وهو رجل لطيف وسبق لي أن تعاملت معه في أكثر من

مناسبة وليس حازم بك الذي ادعاه المتصل ولكن على كل الأحوال فضباط الشرطة يتنقلون

كثيرا فلا غرابة في الأمر تقريبا لكن لماذا يتم الاتصال بي تليفونيا ولا يرسلون استدعاء مع

شخص ما في حال كانت هناك مخالفة أو شكوى أو شيء من هذا القبيل؟

إذن فليس الأمر على قدر من الخطورة أو الأهمية ربما هو استكمال لبعض التحقيقات التي

سبق لي أن قمت بها

ارتحت لهذا الخاطر وكنت أمام مكتب رئيس المباحث في الموعد

قدمت للجندي على باب المكتب بطاقة تعريف بسيطة طبع عليها اسمي ومهنتي

وهاتفي وقد تعمدت عدم تقديم بطاقتي الشخصية

فطرق الجندي الباب ودخل للحظات ثم سمح لي بالدخول

حينما دلفت الغرفة ألقيت نظرة سريعة تجاه المكتب قبالة الباب فوجدت رجلا يجلس

على مقعد جوار المكتب

كان رجلا كبيرا في السن بثياب مدنية اقتحم الشيب رأسه وله شارب من الطراز الأمني

الذي لا تخطئه عين لم افهم كيف لمثل هذا السن وتلك الهيئة أن يكون رئيسا للمباحث

أن مثل هذا السن يجب أن يكون مديرا للأمن على الأقل

وبينما أنا أفكر في هذا انتزعني صوت من جانب الحجرة لشخص يقف قبالة النافذة

وحينا تحققت من ملامحه ضحكت في بلاهة قائلا

حازم أهو أنت ؟ يا للهول لقد مر زمن.

ابتسم باقتضاب يناسب النصب وقال

مرحبا يا إبراهيم  كنت أتمنى أن أقابلك في ظرف أفضل !

سرت في جسدي قشعريرة باردة لردة فعلة وللمعنى الذي تحمله كلماته

تمتمت قائلا بخفوت ظرف أفضل؟

فقال كأنه سمعني  في الواقع لقد تم الاتصال بك في إطار بعض التحقيقات في جريمة

قتل وحين تعرفت على اسمك فلم استحسن إرسال من يستدعيك بشكل رسمي قد

يزعجك وفضلت الاتصال بك تليفونيا

فهتفت ببلاهتي المعهودة في مثل هذه المواقف  اهو أنت إذن من حدثني صباحا؟

فهم بالضحك لكنه بتر الضحكة وهو يشير إلى الجالس على جانب المكتب لقد حدثك الأمين محروس،

ثم توجه بالحديث إلى الأمين محروس هذا قائلا إذن يا محروس ضم كل هذا في ملف واحد وأحفظه حتى اطلبه

وأرسل أحدا من البوفيه

ارتبك الرجل وغمغم ببعض الكلمات وهو يجمع الأوراق

كان حازم جاري في الحي القديم ولم يكن صديقا مقربا لكن كانت بيننا علاقة قوية حتى انتقل

المزيد من المشاركات

بحبها

تأملات

إلى الصعيد في فترة ما كما هي العادة مع صغار الضباط

وقد حرصت على التواصل معه بعدها بفترة عن طريق أسرته إلى أن انتقلت من الحي القديم

إلى مسكني الجديد

لم يكن حازم من أولئك الذين تغيرهم المناصب فقد كان دائما مرحا باعتدال مبتسما لطيفا

ودودا مع أصدقائه وهو ما جعل فتور اللقاء يدعو للقلق

حينما خرج الأمين تتبعثر من يده الأوراق ويلملمها بشق الأنفس

كان حازم يتوجه إلى مكتبه ليتخذ مقعده  لكنه قبل الوصول للمقعد استدار إلي باسما وقال

اجلس وأعلمني أخبار في الخمس عشرة سنة الأخيرة التي لم اسمع عنك فيها

بدأت احكي لحازم الذي بدا على غير عجلة من أمره بإيجاز ما صار في حياتي في عناوين عريضة

وقد بدأت أعصابي تهدا وصوتي الذي لم ألاحظ انه يرتجف بدا يعود لنبرته الطبيعية لكني لم أكن

افهم ما يدور من حولي ولا سبب استدعائي من الأساس وعلى حين غرة قاطعني حازم

سائلا هل تعرف أحدا باسم احمد عبد المولى ؟

قفزت ذكريا الليلة السابقة إلى عقلي دفعة واحدة مما دفع كل خلايا عقلي تتحفز لتحليل

الموقف وربط أحداث الليلة والمكالمة الغامضة والصباح الغريب والموقف الحالي الأغرب

تمهلت لحظة في الإجابة بفعل المباغتة ثم أجبته

نعم هو ابن عمتي هل أصابه مكروه ؟

فقد ذكرني سؤالك بأمر كنت قد نسيته تماما

فنظر إلى حازم نظرة يستحثني على الاسترسال فقلت

من الغريب انه قد وردني اتصال منه أمس في ساعة متأخرة جدا على ما أظن لكنه لم يجب

وظننت انه اتصال تم بالخطأ بسبب ما سمعته من ضجيج غير مفهوم وقد عدت للنوم ونسيت الأمر

تماما حتى تذكرته الآن

فرفع حازم حاجبيه ليشاركني العجب لكن النظرة في عينيه كانت اقرب إلى نظرة شك

تنهد حازم تنهيدة لا تدعو للاطمئنان وقال

اسمع يا إبراهيم  لأجل الأيام الخوالي والعشرة الطويلة القديمة بيننا لم أتصرف معك بشكل رسمي

لكن اعلم أن هاتف احمد ابن خالك هذا وجد في طيات ثياب جثة لامرأة مقتولة داخل إحدى الفلل في

منطقة راقية وبالبحث في الهاتف عن طريق التقنيين وجدنا أن آخر اتصال  بل والاتصال الوحيد منذ فترة

كان لهاتفك وكانت مكالمة قصية مدتها دقيقة ونصف وكان وقت المكالمة في نفس الساعة التي حددها

الطبيب الشرعي للجريمة ولا احتاج أن أخبرك أن أحمد ابن عمتك مفقود ولا نستطيع إيجاده فهو إذن

المشتبه به الأول وأنت المشتبه به الثاني على الأرجح

وحيث أن احمد كانت زوجته قد تقدمت ببلاغ باختفائه منذ أسبوع وان هاتفه كان مغلقا طوال تلك الفترة

فقد كنا نتتبع إشارة الهاتف طوال تلك الفترة إلى أن تم فتحه أمس وأجريت منه مكالمة لك وحينما

تم تحديد مكان الهاتف توجهنا إلى الموقع لنجد الجثة ونكتشف الجريمة

صحيح انه ليس هناك اتهام رسمي حتى الآن لكن لا أظن ان الأمر سيكون مسليا لك ولا لقريبك هذا حين نجده .

لذلك فانا أنصحك بان تصارحني بكل ما تعرف حتى استطيع أن أساعدك

نظرت إليه نظرة لا تنم سوى عن بلاهة منتظرا أن يقهقه معلنا انه يمزح  لكن نظرته الباردة

بددت في نفسي هذا الأمل سريعا

 

 

 

حاولت التكلم لكن صوتي خرج متحشرجا مرتعشا وأنا أقول

أنا لا علم لي بكل ما تقول فان علاقتي بأحمد سطحية إلى ابعد حد حتى إنني

لم أكن اعلم شيئا عن قضية اختفائه من الأساس

رمقني بنظرة شك لبرهة ثم قال وهو يميل على المكتب  إذن أخبرني بكل ما تعرفه

عنه وحاول ألا تغفل أي تفاصيل ولو كانت صغيرة

حكيت له كيف تزوجت عمتي من رجل على شيء من الثراء يعمل في المقاولات

وكيف أنها أصبحت بعدما تحول زوجها إلى احد رموز المال والاقتصاد في مصر تنظر

إلينا نحن نظرة متعالية وتحاول أن تكون علاقتها وعلاقة ابنها الوحيد احمد في اقل الحدود

ثم شرحت له أني كنت أظن أن اتصاله كان بسبب وفاة عمتي مثلا

استمع حازم لما حكيته بصبر نافذ ثم قال

إذن والحال ما تحكي لماذا اتصل بك والى أين ذهب ؟

حاولت شرح نظريتي بموضوعية ووضوح وبساطة قائلا

ربما ما أقوله لك يعتبر من الحقائق التي يمكن الاعتماد عليها لكني أظن أن الغرض من الاتصال

بي لم يكن سوى دفعكم للوصول للهاتف واكتشاف الجثة أي انه عبارة عن بلاغ بالجريمة بشكل غير مباشر

فقال بنفاذ صبر إذن لماذا أنت تحديدا فأجبته بالإجابة التي كنت قد جهزتها لهذا السؤال

لان اسمي غالبا هو أول اسم في جهات الاتصال حيث يبدأ بحرف الألف وكذلك اسم العائلة

سكت لحظات وكأنه يزن الكلمات في عقله ثم مد يده في درج مكتبه ليخرج مغلفا بلاستيكيا

يحوي هاتفا محمولا واخذ يتمعن النظر فيه ثم وقف  فجأة وقال مشيرا إلي بيده انتظر هنا وخرج مسرعا

من الحجرة وصفق الباب خلفه ليتركني وحيدا مع هواجسي

مر علي وأنا جالس في المكتب ما يقرب من ساعتين حتى إنني من شدة التوتر غفوت لانتبه على

صوت الباب يفتح ويدخل حازم وخلفه شابان بدا أنهما ضباط مباحث أيضا وقد ميزت منهما واحد كنت

اعرفه من مباحث القسم

وكان لدخول حازم جو غريب أشاعه بصوته الجهوري وأوامره السريعة التي يلقيها هنا وهناك

وتأتي الإجابة من الأشخاص الذين احتشدوا عند عتبه باب الغرفة

جلس حازم خلف مكتبه في حين ظل الشابان واقفان وهما ينظران إلي من حين لآخر بنظرات لم احدد معناها

وأخيرا التفت إلي قائلا بنبرة ذات معنى  : إما إنك عبقري و انك من أولياء الله الصالحين

أو انك قاتل مختل وسفاح بالفطرة

وقبل أن افتح فمي قال  لقد تمكنا من فتح الهاتف والحقيقة إن اسمك ورقمك يظهران فعلا

أول جهات الاتصال المسجلة  وستكون هذه نقطة في صالحك فلا أظنك على صلة بالجريمة

سوى بشكل عرضي ليس لك يد فيه

لكن ما يحيرني انه إذا كان احمد يريد فقط أن يتم تتبع الهاتف عن طريق إجراء مكالمة للتأكد

من رصد الموقع  لماذا لم يتصل بزوجته أو أحد أصدقائه أو شخص آخر له صلة قوية به؟  فهتفت

قائلا ربما لم يكن هو من قام بالاتصال ولم يعلم سطحية علاقتنا فغالبا إن من أجرى الاتصال

شخص آخر يريد توريط احمد وربما سرق هاتفه لهذا السبب

نظر إلي نظرة العالم ببواطن الأمور حينما يتكلم مع من لا علم له بشيء وقال

هذا غير ممكن يا أبو الأذكياء لان هذا الهاتف لا يمكن فتحه سوى ببصمة الإصبع أو العين

أو الوجه لصاحب الهاتف نفسه ولا يمكن فتحه حتى باستخدام الأرقام السرية وحدها

فقلت وأنا انظر إلى الضابطين الواقفين رغم وجود أريكة وعدة مقاعد  : إذن ربما كان موجودا

لكن ألا يجوز أن يكون مختطفا؟

فتمتم حازم بكلمات بطيئة  وهو يشرد بنظره متفكرا

نعم  ربما كان موجودا حقا

أو على الأقل جزء منه

.

 

قد يعجبك ايضآ