جناح فراشة

الكاتبة: ولاء عبد المنعم

كما الفراشة تتنقل بين الطرقات وأزقة الشوارع لتتحصل على ما تقتات به وأسرتها،

تلك الصغيرة التي لا تعرف عن الطفولة إلا بعض ملامح من عمرها وجسدها النحيل وبراءة عينيها

التي ما إن تنظر إليها يرق قلبك، لم تمرح وتلهو كمن بعمرها، بل لديها مهام أخرى لتقوم بها كل صباح

كأي عائل يسعى ليرعى أسرته ويسد حاجاتهم، ففي كل صباح تستيقظ من أحلامها

التي توأد في مهدها عند أول رمشة جفن، ورائحة العطب ولون العفن الأخضريحيط بجدران غرفة صغيرة

تتكوم بها كل أسرتها، لم تستيقظ لتفطر وترتدي زيها المدرسي وتغسل وجهها وتمشط شعرها،

تلك أماني لا تعرف لمعدتها الخاوية مكان، إنما تذهب حافية تضع تحت إبطها حذائها البالي

الذي لا يغني من قسوة الطريق أو حره أو برده شئ، بشعر معكوش ووجه متسخ تحمل بيدها

صندوق خشبي تجلس به على رصيف في إحدى الأحياء الراقية تضعه أمام قدميها النحيلتين الحافيتين

وتضع بجانبها حذائها البالي وتلبس بعض ملابس مهترئة لا تكاد تغطيها ولا تقيها البرد القارص،

وشعرها المجعد يتدلى على جبهتها شعساء المظهر وأثار الأوساخ تغطي ملامحها البريئة

التي كادت أن تختفي من علامات الشقاء والفقر، تنتظر المارة أن ينظروا لها بعين الرأفة ويشتروا منها

ببضع جنيهات تكفيها لتروح أخر اليوم وقد تحصلت ما يكفيهم لقوت يومهم ؛

وفي كل يوم يمر بنفس الوتيرة كأنها تدور في ساقية الحياة التي تأخذ الناس في غيابه المتاعب الصماء

التي تجعلهم كالألات يصبحون على وتيرة واحدة كل يوم ولا يعرفون عن العمر إلا لحظات تمر بهم

في معاناة وصراع من أجل البقاء والبقاء فقط دون هدف يسعون إليه بل طريق من الفناء وإلى الفناء ؛

ولأن والد الصغيرة من هؤلاء الذين أخذتهم دوامة الفقر فأعتمد على أبناءه الثلاثة في السعي ،

فرغم صغر سنهم إلا أنه لم يجد حيلة لكسب الرزق إلا تسريحهم، حتى تلك الطفلة التي لم تتعد السابعة

من عمرها كان أولى أن تملك دمية صغيرة تحكي لها قصص من الخيال عن الأميرات وتمشط شعرها

وتحتضنها أخر الليل، كانت تنام  كالمغشي عليها من التعب طوال النهار وفي مقابلها أقدام إخوتها.

واليوم كعادتها غدت إلى العمل تفترش الأرض بورق من الكرتون وتضع صندوقها الخشبي الملئ

بالمناديل الورقية تنادي على بضاعتها بصوتها الضعيف :

من يشتري ؟

-مناديل يا أستاذ ،مناديل يا مدام

الكل يمر بجانبها ولا يهتم فتضع يدها على خدها وتسقط رأسها من الغفوة التي تتخذها كل دقيقتين

وتتفزز خوفا أن تفوتها الزبائن، حتى مر بجانبها ذلك الضخم وسألها:

-بكم هذا؟

-بجنية يا باشا

-حسنًا،أشتري منك جميعهم

-بجد يا باشا

-نعم

طارت فرحا وقدمت له كل ما في الصندوق وهي تدعوا له بطول العمر حتى رحل عنها .

وفي يوم أخر جاء نفس الرجل ليشتري منها وقد رسم على وجهه ابتسامة مصطنعة مليئة بالخبث،

ولأن مظهره يوحي بالثراء والترف فلما رأته الطفلة نهضت من مكانها مسرعة نحوه ترحب به بكلمات المدح والثناء:

-أهلا يا باشا، ربنا يخليك مش عايز مناديل ؟

-اه هات كل ما معك

-الله يخليك ويطول عمرك يا باشا.

-لا ..لا تعالي خلفي سأعطيكي الفلوس من مكان قريب .

-حاضر

ذهبت خلفه كالفراشة تبحث عن رحيق الزهور وتحلم أن ينتهي يومها الشاق في بدايته

وتذهب إلى المنزل وقد ابتاعت كل بضاعتها، لتنعم ببعض المتعة والمرح مع أقرانها من الأطفال في عمرها ؛

صار يمشي كالذئب الذي يستدرج فريسته في ثوب من الرفاهية والبراءة حتى وصلا إلى مكان آمن

يفترس فيه شريدته دون أن يراه أحد، بعد أن خطط لإفتراسها هذا منذ أيام كي تأمن له وتطمئن لهويته

الكاذبة ومظهره الخادع .

ولما حانت لحظة الافتراس قام بالاقتراب منها ووضع يده على كتفها وكأنها يد حانية وهو يخفي

وراء تلك اللمسة الخبيثة  مخالب الغدر الثي خدشت حياء الصغيرة التي ارتجفت وأقشعر بدنها من لمسة

وطأت جسدها النحيل الذي لا يمتلك أي معالم للأنوثة أو يمتلك من المفاتن ما تغوي به ذلك الذئب الشره

الذي يبحث حتى عن جثة ميتة يفرغ بها شرهه الدائم لأي فريسة، لم يرحم ضعفها أو حتى براءة روحها المنهكة من الفقر ؛

لم تستجديه بضعفها ولم تقو لما أصابها من ذهول وخوف من ذلك الضخم الذي حاول ببعض لمسات جارحة أن ينتزع براءتها.

ولأن الله أراد أن ينقذ هذه الطفلة من هذا الذئب البشري فقد أوقعه في مصيدة العار والفضيحة

لأنه لم يراقب الله في نفسه أو في هذه الطفلة أو أي ضحية أوقعها في شركه،

كشف الله أمره بشئ لم يتحسب له، إحدى الكاميرات المثبتة على جدار مقابل لإحدى البنايات

كشفت مكره فتفاجأ بخروج صاحبة العقار تنهره على فعلته التى رأتها من خلال شاشة الكاميرا الداخلية ببيتها،

هربت الطفلة في خوف تلملم بعض من عروقها المنتفضة تتمسح جدران الشوراع بضعف

وتتوارى خجلًا من أعين الناس وكأنها ذبيحة لم  يكتمل ذبحها وتركها قاتلها مغروز بعروقها النصل تنزف،

فأخذت تتخبط في طريقها بتوجس، لم تتصور أن تنتهك براءتها مرتين حين أودعتها في حلم حاصرته جدران غرفتهم،

وحين أودعتها في رجل ظنت أنه من النبلاء سيراعي حوجتها، لقد ذبحت تلك الفراشة وتحطمت أجنحتها،

بنصل الفقر مرة، وأخرى بنصل الخسة والندالة في أحط صورها.

 

قد يعجبك ايضآ