قراءةٌ أدبيةٌ في نَص “وجه القمر” للأديبة: همس القلم

بقلم الشاعر: محمد خير

النص

“كعادتها جلست أمام حاسوبها ودفترها وبعض الأقلام الملونة، وكوب من القهوة الممزوجة

بالحليب كامتزاج رائحة القهوة برائحة الغياب …

كلما رشفت رشفة أطل عليها وجه القمر ، نظر إليها معاتبًا :

– هنيئًا لكِ النوى !

– ففاض قلبها حسرة: تالله يا شقيق الروح ما خمد الجَوَى!

– أعرج بخيالي إليكَ كل ليلة … أشد رحال الحنين .

– وفي كل ليلة أجثو خائبة إلا من همسات تنفث في روحي :

– أنا وأنتِ سجينان …

– لا : أنت هنا يبزغ نورك كل مساء يمحو عتمة أحزاني .

تعانق كلماتك مداد روحي .

تنقش الحياة في جدار عمري الذابل.

قطرة من سحائب فيضك تمحو زمان الخريف بداخلي .

أغيب عن الوجود هنيهات …. وأعود أفتش عن وجه القمر”.

………………………………………………………….

 

أقف اليوم مع(وجه القمر )، وهو نص نثري تخطو به أديبتنا خطواتها الواثقة

نحو الكتابة الاحترافية، وإنني حينما طالعت هذا النص الذي يتميز بالتكثيف والحوار،

توقفت أمام كل فقرة وفاصلة فيه، ففي النص الذي أبدعته الكاتبة ثُرَيَّاتُ فرائد تُحَلقُ

في سماوات الجمال همسًا شفيفًا يخترق أفئدةَ الكلماتِ اختراقا يتجاوز سرعةَ الصوت،

نفحات البيانِ دفاقةُ الأريج، منسابةٌ انسيابَ النهر الجاري وقد ارتوتْ منه كل قطعةٍ

موسيقةٍ فازدادَ إيقاعُها طَربًا ساميًا.

ورودٌ متراقصةُ الورقات على أغصان هذا البستانِ المتناسقِ وقد أَوْرَقَها ربيعٌ أعادَ الحياةَ

إليها دفئًا يعانق روحَها.

المشهد

كلماتٌ ليست كالكلمات تصدح بالعبق السامق.

لله در أديبتنا حين تأخذنا(كاميرا) حرفِها فنُبصرُ بأعيُنِها.

حيوية المشهد تنطق فتُبين، وروعة الحكي تصدح بالسرد المكين.

حِواريةٌ على قِصَرِها،إلا أنها استحضرَتْ ما تعجز عنه كتبٌ جمة، حواريةُ الجمالِ بين القمر و”هي”،

وأي حوارٍ يضاهي هذه السيمفونيةَ الشاهقة؟

إنه حوارٌ شفيفٌ، فيه من الإفصاح ما يربت على هذا السابحِ في كبد السماء يحدوه الشوقُ

حتى امتزج بالقهوة المرتقِبةِ اقترابًا يهبها نكهةَ الخلود.

نحن أمام افتتاحية سريعة تقر بها الكاتبة بأنها حينما ترصد (بَطَلةَ الحكي) فهي ترصد مشهدًا اعتياديًّا

في حياتها، هذا المشهد الذي أَلِفَهُ الاعتيادُ، فصارن اموسًا أصيلاً في حياتها اليومية،

هذه الحياة التي يحتل فيها “حاسوبها”جزءًا كبيرًا من اهتمامها،

فلربما تتخذ منه سراجًا تجمع من نورهِ شتاتَ أفكارها مكتوبةً.

وها هي القهوة التي امتزجت بالحليب تحتل سدة المشهد، وللحليبِ هنا رمزيةٌ خاصة،

فهو اللون الأببض الذي آثرَ أن يحطم اللوحة الغامقةَ التي كان يتجهز البنُّ لِبَسْطِها

غيرَ مكترثٍ بحبات السكر التي ستذوب حتمًا، وهنا نجد بطلة الحكي تخشى اسوداد المشهد،

وتأبى أن يستحيل تراجيديًّا بحتًا.

صورة بديعة استلهمتها الكاتبة هنا حينما قالت(رائحة الغياب) إنها مجازية ساحرة،

ذلك الغياب الذي تضيق به الصدور، إنها رائحته التي توغل الصدور وتنهش أنفاسها.

الحوار

الحوار الذي ابتدأه (القمر) حوار عاتبٌ، حوارٌ يكاد يقطر دمًا، إنه عتابٌ على حافة الموت،

تجسيد حميدٌ أَنطَقَتْهُ أديبتنا بنبرةٍ دراماتيكية نفاذة.

هل تصمت بطلة الحكي؟ هل تتركه يسيء الظن بها؟ هل تسمح لجحافل الحسرة أن تمزق أوتاره؟

لا، إنها تناجيه في نفيٍ بما تسلل إلى صدره من محاقٍ ، قائلةً:” تالله يا شقيق الروح ما خمد الجوى”،

إنها تتقاسم الحسرة معه، لا يكابدها وحده، ولا يكتوي بلظاها دونها، إنها تعرج إليه ببراق الشوق،

وتشد إليه رحال الحنين كل ليلٍ، والليلُ معراج القلوب لذويها.

إنها وقت الارتقاب والصمت تجثو خائبةً تنفث نفثاتٍ تحرق الكلمات، إنها تشاركه (السجن)،

وهذا السجن معنويٌّ بالتأكيد، إنها وإن كانت حرةَ الحركة فهي سجينة الإرادة، حبيسةُ البوح،

فيا للحسرة التي تنهش روحها.

إن كانت الغيوم تحجب القمرَ عنوةً، فإن الأرضَ تكبلُ رِجْلَيْها كلما سارت إلى شرفتها

لتطلق ناظرها في السماء بحثًا عن وجه القمر الذي يصدح في ذاتها.

إنه الماحي بأنواره الخريفَ الذي يتسلل خلسةً إلى رباها،

إنه القمر الذي يحمل ليالي الربيع إلى روحها التي تتوق إلى الحياة.

قد يعجبك ايضآ