حوار مع الكاتب فيصل الأحمر

حوار مع الكاتب فيصل الأحمر

ديباجة:
رؤى حوارية.

الثقافة مدينة كاملة، بها العديد من الشوارع والميادين، لكل منها مسماه الخاص، وذووه وخاصته، الشعر، الاقصوصة، القصة، الرواية، النثر، النقد، الدراسات البحثية، الفنون على إختلاف تعداداتها، لها أيضا مضامير خاصة بها، كل هذا منظومة كاملة متكاملة، تعطيك رؤية شاملة لهذه الدولة أو تلك، وما هى ثقافات الشعوب، وعلى أى درج تقف، درج صاعد أو هابط، الثقافة هى قراءة جادة لمفردات الشعوب، نحن هنا نتحاور مع كاتب وشاعر وقاص وروائى، إذا هو يمتلك مفردات كبيرة ومتميزة بعالم الثقافة والفكر، والكتابة على تعدد صفوفها، الكاتب الجزائرى المعروف(فيصل الأحمر).
حوار أجراه:.. أحمد طايل…مصر
—-
=إذا أردنا أن نرتاد عوالم (فيصل الأحمر) الإنسانية، والإبداعية، وحتى إصداراته، ماذا تخبرنا عنها؟
= كانت لي تجربة غريبة بعض الشيء، فقد أصبت ببعض التعقيدات الصحية باكرا في حياتي بسبب بعض الأمراض الوراثية التي أرى اليوم وبعد ثماني سنوات من ظهورها بأنني أتعايش معها بشكل معقول جدا، والتجربة هي كتابتي لكتابين في السيرة الذاتية: خزانة الأسرار (2019) وسجلات الخافية (2022)… وقد جاء في العنوان الفرعي أو الملاحظة التجنيسية للكتاب الأول (سيرة شبه ذاتية) وهي ملاحظة أسالت كثيرا من الحبر… أذكر هذا لأنني كنت مترددا بعض الشيء في إتمام تلك النصوص وإخراجها للقراء… كثيرون قالوا إن سن السابعة والأربعين ليس سنا مناسبا لكتابة سيرة ذاتية… أما أنا فكنت انظر إلى الأمر بشكل مختلف تماما: ما كتبته هو شهادة حية حول حياتي… وحول تكويني الثقافي والكتابي، هي شهادة حول ما شاهدته وما قرأته وما(ومن) لعب دورا في حياتي وفي تكويني…
في رأيي أننا لا نعيش كثيرا من التجارب الصاخبة، أو هي صاخبة لكن دون جلبة، تجاربنا الهامة تحدث في الظل مثل كل شيء جميل وعميق ولذيذ ونافع: الأجنة في الأرحام، الخمور والزيوت في بطون حاوياتها، الحكمة في رحم السنين والمحبة بعيدا؛ في مدن القلب والروح الخفية…
أعتقد أننا لن نجد كثيرا من الأشياء في السيرة الذاتية تبرر ما في الكتب، ولا العكس وارد أصلا…
كنت قد كتبت كتيبا عن الصلة بين الحياة والكتابة عنوانه (حياة في كتابة)2017… وعلى صفحته الأولى دونت ملاحظة أعتقدها تجيب هذا السؤال: لا حياة لي خارج الكتب، كل شيء جميل وجدته أو رأيته وخفت عليه من الضياع فخبأته في كتاب.

محطات التكوين الإبداعي والفكري لديكم، حدثنا عنها تفصيلا؟
= لا بد أن الحاضنة العائلية لعبت دورا قاطعا. أنا أنتمي إلى عائلة من الطبقة المتوسطة (أو ما دون ذلك)… وهي طبقة هلامية توصف كذلك لسبب واه جدا هو كون الوالد إطارا في مؤسسة المناجم الوطنية. من خصوصيات هذه الطبقة – منذ ثلاثين إلى خمسين سنة- ضمان مسكن متوسط (جدااا) وراتب شهري عادة ما يكفي (بعسر كبير) لسد حاجيات العائلة… أما إذا نظرنا بالعين المقارنة مع ظروف الآخرين فإننا سوف نجد أنها طبقة فقيرة على العموم… يبقى أن إحدى حسنات تلك الفترة التي ولدت فيها (1973) هي تقديس الدراسة والعلم والمستوى الثقافي… كان الطالب الجامعي في بلادنا الخارجة للتو من الاستعمار مقدسا تقديسا عظيما (وهو أمر نفتقده اليوم)، وكانت الاعتبارات المادية غائبة عن تحديد هرميات المجتمع؛ فقد كنا ننقسم إلى متعلم وجاهل، موظف نظيف وتاجر (ابن حرام يمتص عرق الآخرين)، كنا محبين للوطن؛ نعمل دون هاجس الربح الجنوني الكبير أو السريع، أهم شيء نتصف به هو التضحية لأجل بناء الوطن؛ ونجتهد كي لا نحسب ممن لا يضحون، بل يسعون لتكوين ثروة شخصية والتحول إلى بورجوازية (وكانت مشاعرنا إزاء هذا الملح البشري وليد الثقافة التي كانت مهيمنة ساعتها)…
وخلاصة ما أود قوله هو أنك حينما تريد الكتابة أو تشرع في اختيار خيار الكتابة فإنك تكون قد دخلت في خدمة مشروع أكبر منك بكثير هو : الوطن/ البلاد … العالم النامي… الإنسانية في زاويتها الخارجة من الاستعمار والمحاولة بنشاط كبير أن ترمم جروحا لا حل إزاءها سوى الكتابة لتزيين الصورة التي تتفنن في البشاعة… هذا هو العالم الذي تربيت فيه والذي شكل خلفيتي الفكرية والوجدانية.

كيف كان المناخ والبيئة اللذان هدهدا بداياتك،وما مدى تأثير ذلك عليك أثرا وإثراء شخصيا وكتابيا؟
= المناخ الأول الذي هدهد طفولتي مناخ متعدد المشارب؛ فأنا ابن بادية أرادت له الظروف أن يولد لأب هو إطار شاب في شركة هامة(يومها) فكان لنا بيت في حي متقدم جدا؛ حي السوناريم في بـئر العاتر بتبسة (شرق الجزائر) كان حيا ألمانيا نموذجيا، واحة من الجمال والتكنولوجيا مزروعة في المناخ الصحراوي الصخري لتلك المنطقة، ثم أنا سليل عائلة يغلب عليها أن تكون مثقفة، عائلة تهتم بالعلم كثيرا …عائلة تتجاور فيها عربية الأخوال (ومنهم حفظة للقرآن لا يشق لهم غبار)، وفرنسية الأعمام، عائلة فيها أمهات أميات غارقات في الميتافيزيقا وذكور لا ينطقون كلمة إلا ومعها “علميا”، أو “منطقيا”… الخ الخ
وكل هذا من شأنه صقل شخصية على مقاسات غير اعتيادية. وكل هذا سيكون متعايشا سلميا داخل نصوصي وعلى حوافها.

لحظة الهرولات الأولى نحو الكتابة، مؤكد أنه لم ولن تغادرك، ماذا عن لحظة الميلاد الأولى لكم، وولوجكم عالم الثقافة الحرب؟
= المحاولات الأولى كانت على أيام التعليم الإعدادي ثم المرحلة الثانوية. صدفة وأنت في الثالثة عشرة تكتشف ثلاثة أشياء تعمل متضافرة على جعلك كلمة كتابة أو أدب تترددان بشكل مشبوه حولك… كلمات سوف تتردد حتى تصبح أنت مقتنعا بأنها ظل لمعنى ما يرتبط بك… الأول هو اهتمام مدرس اللغة العربية بمواضيعك الإنشائية التي لم تكن من قبل شيئا مذكورا… وفي أحسن الأحوال تكون قد حظيت فيما قبل بملاحظة عابرة: هو تلميذ متفوق له علامات عالية في كل المواد… “كل المواد” تعبير تجنيسي بائس جدا لأنه يجعلك تشبه الأشياء المبتذلة التي تصبح توصف بـ “عدة أغراض” أو “كل الأشياء”…
صدفة سيكلفك أستاذ الموسيقى الذي كان هو أستاذ التربية الفنية أيضا (قبل أن تقرر قوة ما في البلاد أن تحذف هاتين المادتين من المنهاج لمدة عشرين سنة من النظام المحارب للأحزاب الإسلامية بسلاح مبتذل: الاستيلاء على مزايدات الإسلاميين والمبالغة فيها، لأجل الظهور بمظهر المتدين… ومن الغريب أن يتفق الإسلاميون وخصومهم في السلطة القائمة على حذف الموسيقى والرسم والتربية الفنية من المنهاج)… سوف يتم تكليفك بمهمة جمع وتدوين المواضيع التي سوف تنشر على مجلة المدرسة الحائطية …
والأمر الثالث هو الشغف المباغت في الثالثة عشرة بقراءة الكتب؛ بتلك العادة غير المعهودة في حياتك الغبية السابقة: الغرق لساعات طويلة طويلة مع كتاب…تكتشف أن خلف جدران حياتك المعهودة غرفا كثيرة مدهشة لم تكن أصلا تشك في أنها موجودة.
تبدأ النصوص مترددة… والآراء حولها متضاربة… وقليلون من يدلونك على عيوبك… أغلب من في محيطك لا يدري إن كان العيب عيبا أصلا…هههه
ثم تأتي المرحلة الجامعية فيدخل في حسابك النشر في الجرائد والمشاركة في الملتقيات، وهذا هو المحك الأساسي والرئيس… لأنه يتم فضحك أمام العالم جملة جملة… لحظة لحظة… هنا تجبر على رفع سقف تحديات النص…

مؤكد أنك قد بدأت بكتابة الشعر، الذي أراه الباب الأول، بل المفتاح الأول للدخول لعالم الكتابة، ما رأيك أستاذ فيصل وأنت الشاعر صاحب الدواوين السبعة والجوائز الشعرية المشهودة؛ هل الشعر درب هام لابد من دخول وعالمه، لكى تمتلك ناصية البيان؟
=الشعر تفاعل سريع آني مع العالم. ونحن حينما نبدأ الكتابة نكون مليئين بالعواطف الفوضوية وفارغين تماما من القدرة على التزود بالصبر والأناة والتريث لأجل إتمام كتاب من غير الشعر: رواية أو دراسة جادة، يحتاج إلى مئات الساعات، وربما يحتاج ألوفا… لكي يستقيم عودة و يعتدل بنيانه
لهذا يكون الشعر سبيلنا إلى التفاعل اليومي الآني المشبع كثيرا لرغباتنا في الكتابة وفي رؤية اسمنا ككتاب شباب يملأ الدنيا ويشغل الناس من خلال تذييل نصوص ضعيفة في الغالب نكون قد اعتصرنا معها المخ والمخيخ معا.
ما يتفاجأ له كثيرون هو أن الشعر عادة ما يتحول مع السنين إلى نظام ثري للرؤية صوب العالم، وإلى عادة سيئة كلما تركناها لسبب ما عادت أكثر ضراوة وأشد عمقا. وهو ما يفسر وجود عدد كبير من الشعراء الذين يشهدون ميلادا جديدا في سنوات متقدمة من السن…
يبقى أنني شخصيا أحب الشعر الناضج وأحب الشعراء الناضجين… وربما يعود ذلك إلى النوع المحبب لدي من الشعر الذي هو شعر تأملي لا يقف على عتبات الإيقاع البسيطة أو على حواف التفاعل السطحي مع الأشياء، شعر لا يقول دهشة أولى يؤججها حتى تصبح ذات كثافة مقبولة يغلفها ببهاءات اللغة والبلاغة … نوعي الأثير هو ذلك الشعر الفلسفي التأملي الغارق في المشارب الثقافية المتنوعة، الشعر الذي يقول العالم ولا يبحث داخله عن لحظة تفاعل تبدو كأنها قربان ضد خراب ما مسلم به… شعر يقول العالم كما يقول نيتشه وليس شعرا يقف مندهشا أمام العالم معتبرا القدرة على الاندهاش مزية كبيرة في عالم فقد القدرة على الاندهاش كما يقول هايديغير.

ما هو يا ترى الكتاب الأول الذى جذبك وفتح أمامك باب القراءات وبشغف، ماهو، وهل مازلت تحتفظ به وتعود إليه؟
= أعتقد أن هنالك ثلاثة كتب قد رسمت لي مسارا معينا التقيت بها في مفترق الثالثة عشر والرابعة عشر: راقصة المعبد لتوفيق الحكيم، مغامرات آرسان لوبان، ورواية جول فيرن “من الأرض إلى القمر”…لا أدري لماذا هذا الترتيب، ولماذا أتتني هذه الكتب تحديدا من قبل أساتذتي في تلك المرحلة… يبقى أن عالم الكتابة بالنسبة لي سيكون دوما عالما تأمليا يربط أفكارا مركبة وداكنة مثل الحياة والموت بأفكار حمراء وردية مثل صورة جسد المرأة الراقصة في مسرحية توفيق الحكيم… هنالك في أدبي كله على ما أعتقد كاتب لا يتحرك كثيرا؛ جالس يتأمل ويتكلم بطريقة ذكية، شخصية تشبه شخصية بطل مسرحية توفيق الحكيم الذي يشبهن انحن الكتاب جميعا: أشخاص كل مغامراتهم تحدث داخليا، يتأمل امرأة بهيجة تثيره فيكتب لتتحول المكتابة إلى شيء يشبه اللذة الجنسية أو يشبه طاقة الحياة الخلاقة، او شيئا كمثل هذا… مع آرسن لوبان انطلق لدي هاجس التحقيق الذي هو محرك كتابي بامتياز، سواء لدي أنا على المستوى الشخصي أو على مستوى الكتابة في مطلق أمرها… فالكتابة هي دوما عملية تحقيق تقيمه الكلمات في العالم الملموس… تحقيق تقوم به الكلمات لكشف شيء ما (جريمة؟) يتستر في عالم الموجودات…
أما عن جول فيرن فقد أخذت فكرة جديدة تماما، وهي أنه يمكن للرواية ألا تشبه عوالم الأفلام المصرية والغربية التي كنت متعودا عليها… يمكن للرواية أن يكون فيها أناس غريبو الأطوار هم علماء لا تهمهم قصص الحب، يتحدثون بالأرقام والبيانات العلمية حول طريقة إطلاق قذيفة تصل إلى القمر… كم كان ذلك الاكتشاف رائعا… كان ذلك بذرة أولى (تشبه الكاريكاتور لما سوف يصبح بعد سنوات خيالا علميا)…
هذه الكتب الثلاثة لا تزال في مكتبتي أنظر إليها دوما نظرة استغراب وتعجب؛ وأسأل نفسي: ماذا لو أن ما وقع بين يدي ساعتها هو كتب ثلاثة أخرى. كيف كانت الأمور ستكون يا ترى؟

كتاباتك الأولى، قبل النشر، كيف كان رد الفعل على أسرتك الصغيرة، أصدقاؤك المقربين؟ = من أول ما آمن موهبتك؟
= في مرحلتي الجامعية، ومنذ عامي الأول في جامعة قسنطينة العريقة شرعت في نشر نصوص كثيرة منها ما هو مقالات أدبية وفكرية أبانت عن ثقافة لا بأس بها وأسلوب ذكي جذاب في التحرير بالنسبة لمتوسط الكتاب ولمن هم أترابي، ومنها ما هو أشعار (وكانت بائسة جدا جدا جدا)… وكثير منها كان قصصا يبدو أنها كانت على درجة عالية من الجودة… وهذه القصص هي التي دفعت شخصين ممن كانوا مشرفين على الصفحات افبداعية ساعتها احدهما الطاتب الصحفي الشهير الطاهر يحياوي الذي كان ينشط ساعتها رابطة إبداع التي كانت أنشط جمعية في ذلك الوقت البائس (نحن مع بدايات العشرية السوداء في الجزائر: 1991/1992)… والثاني هو المسرحي الأكاديمي الشهير احسن تليلاني … وكلاهما كان يقولها علنا: نصوصك على درجة من النضج تجعلك مجبرا على التفكير في تحرير كتاب للنشر بدلا من نصوص مختصرة مبتسرة مجهظة بالضرورة لأجل احترام مساحات النشر في الصحافة.
المرحلة الموالية ستكون بعد حوالي عشر سنوات في عام 2002 حينما سيشرع الكاتب الكبير الطاهر وطار في نشر عملي الروائي الأول: رجل الأعمال متحديا لجنة القراءة التي اعترضت على العمل بسبب الكلام النابي الذي كان فيه، وسوف يقول جملة هامة ساعتها (أعتقد أن ذلك كان في عام 2004)؛ فقد سئل في بعض الحوارات عمن يرشحهم لخلافته روائيا فأدرج اسمي ضمن قائمة فيها أربعة أسماء روائية شابة، وكان ذلك من أعلى الأوسمة التي علقت على صدري في سنواتي الأولى…

عد بنا إلى إصدارك الأول، ما هو، وكيف كان صداه، عليك وعلى محيطك العائلى، على النقاد، على الصحافة الأدبية ربما؟
= كان كتابي الأول ديوانا شعريا عنوانه “العالم تقريبا!”…احتوى على كل نقاط القوة التي لا بد منها في ديوان البدايات وضم كل النقائص الممكنة المتوقعة لأول الغيث الشعري… كان ديوانا يحمل نبرة خاصة: شعر متهيب من الإيقاع والنغمية التي كثيرا ما تمحو ملامح الشعراء فتجعلهم جميعا سلالة واحدة، وفيه تحد صارخ لقواعد الشعر التي كانت مهيمنة منذ الستينيات حتى التسعينيات (هو ديوان صدر في عام 2000 م )… ولكنه ديوان متسرع جدا، فيه كثير من الآثار الظاهرة لشعراء كنت مولعا بهم من أمثال: محمود درويش، عبد الله البردوني والشعراء السيرياليين…

من قدوتك بعالم الثقافة على تعدد محتواها، وهل تغير قدوتك، بمراحل صعودك الإبداعي؟
= في كتابي السيرذاتي “خزانة الأسرار” أوردت نصا يجيب بشكل جميل على هذا السؤال. قلت شيئا كهذا: (من من كل هؤلاء الكتاب ساكون؟
أول كاتب تمنيت أن أكونه هو توفيق الحكيم… لا غرابة فقد بدأت فكرة أن أكون كاتبا على هامش صدفة كونية جعلت أستاذتي للغة العربية التي أدين لها بالكثير “احميدة فطيمة” تضع بين يدي مسرحية “لعبة الموت” التهمتها في ليلة او اثنتين…كهربتني أجواؤها التي لم تكن تشبه كل ما مر بي من قبل…كنت فبي الثالثة عشرة…سن يأس الطفولة.
رغم كثرة قراءتي لجيمس هادلي تشيز فلم أتمن أن أكونه…كنت قد رأيت في الأفلام التي أنا مدمن عليها كثيرا من حبكاته… اكتفيت بتعلم اللغة الفرنسية التي كنت أقرؤها وأتكلمها بيسر تام وأنا في الخامسة عشرة…
الخامسة عشرة كانت عام اكتشاف مالك بن نبي…أزعجتني قراءته لأني لم افهم ما كان يقوله…قلت أرجئه إلى وقت لاحق… ساعتها كنت قد اكتشفت وجود شخصين لهما عظيم الدور في تكويني: عباس محمود العقاد وطه حسين…يااااه…ما أروع أن تقرأ لهما..
كنت مصابا بشبق غريب بحيث لم أكن أصبر على قراءة كتاب واحد…شعور غريب بأن ما قد كتب يتسرب من بين أصابع العمر الذي يمر بسرعة….
15 سنة؟ يا للهول…لم يبق أمامي الكثير!
تمنيت أن أكون تشكيلة من كليهما: كاتب قوي مشهور مبصر مثل العقاد، ذو بصيرة مثلهما معا…يشعرك بالتربع على عرش الأشياء مثل كل منهما…مع نزوع غريب بعض الشيء صوب التعقيد مثل طه حسين…أنيق الأسلوب مثله أيضا وقوي الحجة والتركيب مثل العقاد…
بطلي الأول في المرحلة الثانوية كان مارون عبود…صدفة اخرى اردات أن تحتوي مكتبة الثانوية على الأعمال الكاملة لمارون عبود…غضبت اول الأمر لأني لم اسمع باسمه من قبل…سألت عنه…لا احد كان يعرفه..وحتى من أجاب بأنه يعرفه بدا لي كأنه مدع فحسب…
غرقت مع مارون عبود الذي كنت أفضله على الرياضيات والفيزياء… نعم…الصدفة التي عودتني على الأشياء الجميلة جعلتني أدرس في القسم الرياضي…وكانت مرحلة مقيتة رغم اطنان الذكريات الجميلة التي أحتفظ بها من تلك الفترة.
كنت أقرأ كتابين وثلاثة وأربعة في الوقت نفسه…في سباق مع الزمن…ومع المكان…
أحمد أمين رائع ولكنه دون تطلعاتي…
بدأت تعلم الانغليزية…قرأت “آيفانهو” لوولتر سكوت في نسخة إنغليزية مبسطة وكذلك “الحالة الغريبة للدكتور جيكل والمستر هايد” لستيفنسن…راقتني القصة…وكنت أجد المقالات والدراسات خيرا من الفن القصصي ومن الشعر…لم أفهم يوما لماذا تعج قوائم مؤلفات الكتاب الغربيين بالروايات والقصص والمسرحيات وتخلو تماما من الدراسات…غرابة ستعشش في وجداني مطولا…
مع اواخر المرحلة الثانوية اكتشفت اثنين آخرين تمنيت أن أكون تشكيلة منهما أيضا: زكي نجيب محمود وجول فيرن…
كنت اجد الخط الذي كتبت به أعمال جول فيرن شديد الصغر وكنت اخشى ألا أتمكن من إتمام تلك الكتب الضخمة التي يتحدث عنها عمي السعيد وشقيقي قدور ( شخصان سيلعبان دورا هاما في تكويني وتوجيهي)… كان قدور يحب الجزيرة السرية وعمي السعيد يتحدث دوما عن ” كيرابان العنيد”…كانت أعمال جول فيرن الخيالية العلمية اجمل بكثير…وراقتني “رحلة إلى منتصف الأرض” بشكل استثنائي…
سلامة موسى. نجيب محفوظ. الإبراهيمي. دي موسي. محمود تيمور. عبد الحليم عبد الله. أحمد أمين. الرافعي. الطاهر وطار. بن هدوقة. باستيرناك. عمار يزلي. كونزاليك. جوزيف كرونان…
كلهم كانوا رائعين ممتعين ولكني نسيت أن أحلم بمشابهتهم…
تذكرت حلمي مؤخرا ( منذ عشر سنوات تقريبا) وقلت لنفسي: هانحن أولاء فيها: من تراك تحلم وأنت اليوم في الأربعين أن تكونه بدلا عنك؟
لم أفكر كثيرا. إما ألدوس هكسلي وإما خورخي بورخيس.)
حينما تكتب مؤكد لك رؤى ذاتية، ورسائل من خلال كتاباتك، ماهى هذه الرؤى وهذه الرسائل، وهل وصلت رسائلك كما أردت؟
= سبق أن كتبت شيئا في جريدة لندنية كنت أقول فيه ما فحواه أن الكتابة عندي كما هي الحال عند غيري من الكتاب لا تخرج عن أن تكون إحدى ثلاثة أشياء متكررة دون ملل؛ هي توثيق لحيوات ووقائع أو مشاعر كان الكاتب شاهدا عليها يخشى عليها من الضياع على أديم الزمن، أو هي تأمل فلسفي في الحياة يهدف إلى البت في المتشابهات والمتداخلات أو مراجعة بعض المسلمات، أو هي محاولة لوضع كلمات على أشياء حميمية جدا تستعصي على القول… الكاتب الأول مدون اجتماعي والثاني مفكر والثالث شاعر يهدف إلى فتح النوافذ الداخلية وإفشاء الأسرار الجميلة التي تختفي داخل علب وجودنا المتناهي في السرية. شخصيا أميل إلى الدورين الثاني والثالث، وأحد المشاكل الكبرى التي أعاني منها هي إيجاد منتصف الطريق بين التأمل الفلسفي وبين النزعة التسجيلية التي تنقل الأحداث والوقائع… بحثا عن كتابة حية متفاعلة مع المحيط بحساسية عالية ولكنها كتابة فلسفية تدعونا للتفكير في الإنسان وفي الزمن. وأعتقد أنني في رواياتي الأخيرة “حالة حب” و” النوافذ الداخلية” ثم “ضمير المتكلم”… وكذا في كتابي السيرذاتيين “خزانة الأسرار” و”سجلات الخافية”… أعتقد أنني قد اهتديت إلى منتصف الطريق بين الهاجسين. فنحن أمام رواية أو فصل أو مقال أدبي ذي شكل جمالي عال، أو نص ببعد تجريبي، ولكنها تبقى نصوصا تقرأ بيسر كبير، مقطعة بشكل تجريبي ولذيذ إلى لقطات صغيرة أو كبيرة وفقرات قصيرة، مشبعة بلغة شعرية تتماشى وإيقاع المشاعر مع محاولات الوفاء داخل الكتاب لما هو في الحياة كما يقول فريديريك جيمسن.

كتبت الشعر، القصة، الرواية، الدراسات البحثية والنقدية، وتميزت، أين تجد نفسك اكتر؟ = طريقي صوب النص ليس مؤثثا بالتفكير الأجناسي… أنا أدخل في حالة قلق تبحث لها عن أصداء في عالم الكتابة… كلمات… أطياف جمل… أشكال هلامية بلا ملامح… أصوات هائمة في وديان الكتابة السحيقة … ثم تبدأ الأشياء بالاتضاح حسب نواميس صعب جدا وصفها ووصف عملها… أما لحظة الكتابة التي يظهر فيها ما سأكتبه، ويخطو الخطوة البسيطة الأخيرة التي هي اختيار الجنس أو النوع الكتابي فما هي إلا جزء متناهٍ في الصغر من المسار الكتابي… وكما دونت ذلك في أكثر من مناسبة فإن الإبداع حالة تواصل مع العالم، هو علاقة جمالية مع الوجود، عين لغوية مسلطة على الكائنات تهدف الى خلق بعد إضافي إلى البعد الفيزيائي الملموس الذي نعيشه بالحواس الخمس ونتلقاه باللغة المتعارف عليها…الإبداع بهذا المفهوم يمكنه أن يمثل الحياة بإيقاع الروح بدلا من إيقاع الجسد الذي نتعود على كونه صامتا مصمتا…في ضوء هذا المفهوم تصبح الأشكال الأدبية التي تعودنا على إعطائها قيمة كبيرة مجرد وسائل لخلق معان غير مألوفة، ولاستنطاق الجوانب الصامتة في الحياة العادية المفرغة من المعنى…وهذا ما يفسر مثلا تقسيم أعمالي بين الرواية، ورواية الخيال العلمي بالدرجة الأولى وبين الشعر ، وشعر الهايكو رأسا…وإن كان المتأمل للاثنين يجد ببساطة انهما كلاهما مقاربتان فلسفيتان للعالم، مقاربة تنفي الواقع المألوف لوضع اليد على الواقع النابي النادر الذي لا عهد لنا به، وهنا يصبح مسارا الخيال العلمي والهايكو متطابقين؛ فهما يقفان أعلى هضبة التأمل والوصف بهدف تجنب الوقوع في مطبات العادي الذي يورث حواسنا ثم عقولنا كثيرا من التبلد.

المزيد من المشاركات

بحبها

تأملات

النقد، كيف تراه بالوقت الراهن، هل يصحح مسارات الإبداع، أم تراه تراجع دوره، وأصبح شبيهبالأرض بمثل شاهد لا يرى شيئا؟ وكيف نعدل مساره ؟
= الواقع هو أن مسارات النقد هي مسارات الإبداع أو مسارات الكتابة ومسارات هذه الأخيرة تتبع بالضرورة مسارات الحياة. فليس عبثا ان النقد وجد نفسه مولعا بالظواهر الاجتماعية منذ نصف قرن أو اكثر قليلا، ثم وجد نفسه يميل ميلا بنيويا من ثلاثين سنة …فقد كان المجتمع العربي ونصوصه في مسيرة البحث عن تمثيلات جديدة للشيء الذي كان بصدد البحث عن مكان له على أديم الحياة غداة الحركات التحررية من الاستعمار: المجتمع. وقد استفرغت النصوص طاقة تأمليه واسعة لأجل رسم ملامح مجتمع جديد في المرحلة الأولى، وقد وجد نفسه في المرحلة الموسومة بالبنيوية بصدد البحث عن فهم عميق للظواهر الحياتية/ النصية وهذا ما يتماشى تماما مع المزاج البنيوي…
ماذا يحدث للنقد على أيامنا؟
ما يحدث هو ان النقد يجد نفسه عموما حبيس أحكام سابقة تتعامل مع نصوص اليوم وهي في جوهرها موجهة لقارئ يأتي غدا. النقد الذي كان في جوهره معرفة مشكّلة حول النصوص صار معرفة غير قادرة على أخذ المسافة الكافية لإصدار الأحكام حول النصوص، هذا هو سبب لجوء الجامعيين عندنا في الجزائر- وأشعر أن جميع بلدان العرب تعرف الظاهرة نفسها- إلى الدراسات التي ترتكز على نصوص قديمة مرسّمة، متجنبا جديد الساحة الأدبية إلا فيما ندر من الحالات، فيما نلاحظ لجوء النقد الصحفي بحيويته الكبيرة وسرعة أدائه وتداوله الشعبي الواسع إلى عمل اللوبيات والجماعات الضاغطة، إلى الكتابة في إطار مقيت من الشللية واشتغال العصب وحتى الاصطفافات الإيديولوجية، هذا بالنسبة للقلة الجادة من نقاد الصحافة المعول عليهم أما الأعداد الكبيرة فهي لأشباه نقاد بلا ثقافة ولا قدرة على الحكم؛ وهؤلاء يرمون بعمل التحرير الادبي والثقافي النبيل إلى عمل الإخبار والتغطية القاعدي والذي – وإن كان هاما وضروريا- فإنه لا يعول عليه خارج دائرة الدعاية.

ما قراءتك للمشهد حاليا؟ عربيا إقليميا وعالميا؟
= العالم حاليا تسيطر عليه قوى تهدف بشكل مرضي إلى مركزية الرأي وتوحيد الإيديولوجيا… لاحظ معي الأزمة الأخير ة بين روسيا و أوكرانيا؛ وبعيدا عن ضرورة تجريم العدوان بكل أشكاله؛ ألا ترى أن هنالك صوتا موحدا ينطق به الإعلاميون والكتاب في كل مكان وكل زمان؟ افتح أية نشرة إخبارية على القناة التي تروقك سوف تسمع خبراء متناثرين في بقاع مختلفة من العالم يقدمون وجهة نظر واحدة موحدة… وهذه علامة مرضية في رأيي… أتصور البشرية كلها بملاييرها العديدة تتفرج على شاشة واحدة وتنبض خضوعا للوجدان نفسه … وهي صورة تشبه ما كان كتاب الخيال العلمي قديما يخشونه في استشرافاتهم للمستقبل…
ما يحدث في الكتابة الإبداعية قد يكون أقل ضراوة من هذا الوضع ولكنه ليس بعيدا… ستلاحظ أن جو الجوائز العربية قد سمم الذوق والرأي والحوار الجمالي تسميما تاما… لا حديث إلا عن جائزة أو ما شابهها… ولا يختلف إلا قلة من الذين لم يمسهم السم على جماليات عمل أو تفاهة آخر… قديما كنا نملك توجهات في الذوق تترسب عبر سنين طويلة من القراءة والتجارب ، أما اليوم فالذوق يخضع لعملية برمجة مقيتة جدا… الجميع ينطق بالرأي نفسه الذي تبثه جهات مخفية بعض الشيء في الميديا… وهذا مرض عضال في الذوق، وكما هو معروف: لا توجد مسألة جمالية إلا ووراءها تكمن مسألة سياسية… الأبعاد الجمالية تتحكم بتسلط كبير في أفعالنا وتدخلاتنا في الحياة…

بإحدى الدراسات البعيدة زمنيا بعض الشيء، أبرزت أن المواطن العربي، يقرأ ما يوازى ست دقائق بالعام، كيف نجعل القراءة طقسا ايديولوجيا للمواطن العربى؟ = = القراءة مشروع قومي… هي بناء حضاري معقد… ويحتاج إلى سياسة دولة… إلى برنامج مجتمعي موسع وليس إلى مبادرات شخصية… هذه الأخيرة من شانها تحسين الظرف القرائي ؛ أي الثقافي، أما الظرف نفسه فيحتاج إلى برنامج سياسي، إلى مبادرات برلمانية،إلى جدل فكري موسع يشمل الإعلام والجامعة ثم ينتقل إلى الجهات الوصية (البرلمان ومجلس الحكومة)… أما بعيدا عن ذلك فإننا نحرث ماء ونحصد ريحا… القراءة مشروع هام جدا … أهم بكثير من أن نغفله تاركين إياه للمبادرات الشخصية.
– أريد منك تعليقات سريعة…
* الكتابة النسوية؟… سياج للإبداع أكثر منه تسمية علمية. مصطلح أستعمله على مضض.
*الكتابة الشبابية؟… تسمية لا بد منها… مع ملاحظة أن شباب اليوم غير محظوظين لأن الانترنت والتردي العام في القيم يحرمهم من رعاية هامة حظينا بها – ونحن ومن جاء قبلنا- أراها ضرورية لنمو الموهبة. شباب اليوم يعانون فوضى في التوجيه وفي القيم تتجلى على مستوى نصوصهم.

لماذا يحدث أن تترك كل شيء وتهرول إلى الكتابة؟
= أعتقد أنها طريقة ناجعة للعلاج. كيف ذلك؟ دعني أشرح الأمر كما أراه.
في علم النفس يقدم الحلم والاستيهام على أنه آلية نفسية لاستكمال النقص الذي تعانيه النفس في الواقع القوي الضاغط. أي أن محرك الآليات النفسية هو الشعور بالنقص، أو العقدة كما يسميها الفرويديون، والكتابة تلعب الدور نفسه. هي تعمل على إعادة رسم ملامح الحياة في صيغة منزهة عن المنقصة. صيغة متعالية كما يقول النفسانيون. الكتابة لا ترسم عوالم كاملة أو تسعى إلى الكمال، إلا أن الاكتمال هو شرط ضروري لصناعة نصوص أدبية. لذلك فالنصوص هي مواقع تنشد الكمال حتى وهي تقوم بتمثيل الواقع الفاسد أو العنيف أو المنغمس في الخطأ والرذيلة (مع كل التحفظ المعرفي حول الكلمتين)…
نحن إذن نعاني من فساد الأشياء، فنصنع لها بيوتا جميلة من خلال اللغة والتخييل لكي نحسن ظرف العالم.

النشر الإليكترونى، هل تراه فيروسا أصاب وقتل الكثير من سمات ومقومات الثقافة الحقيقية؟ ودفع بنا إلى دوامات الكتابة الهشة؟… أم هو نعمة نحن غافلون عنها؟
= أعتقد أنه كأداة مفيد جدا، وقد غير كثيرا خريطة القراءة والنشر وآليات الانتشار، ولكنه – بحكم كونه أداة- كثيرا ما يساء استعماله. فقد جر هذا النوع من النشر ظاهرة جديدة هي الكتب التي تقف على الزيف الالكتروني؛ وهو تلك الدعاية القوية التي تخلق قيمة مزيفة حول عمل ما هو بلا أدنى قيمة في أصله. كما سمح بظهور ظواهر كتابية هي ظواهر إلكترونية أكثر منها ظواهر ثقافية، كتاب لا هاجس لهم في العالم ولا قضية عدا تسجيل الحضور وتحقيق الانتشار الذي يخلق وهم “الأهمية” دون قراءة النص الذي تسمى الكاتب كاتبا بفضله… نص كثيرا ما يؤدي العكوف عليه إلى اكتشاف الزيف خلق الاسم… ولكنها ظاهرة تأكل من وقت وحجم الاهتمام الذي من المفروض أن يكون من نصيب الكتاب الحقيقيين؛ أصحاب المشاريع الكتابية.

ما حجم طموحك الإبداعية؟
= أعتقد أنني رجل يحلم حلما مزدوج الوجه، على أحد الوجهين طموح صوب إتمام نص، وصقله الجيد، وقول الأشياء بالشكل الأمثل والأقرب من شرطي الجمالي (العالي عموما)… فهو حلم قصير المدى بشكل ما، أما على الوجه الآخر فيختفي حلم مركب معقد عنقودي ثوري ارتوازي بتغيير كل ذرى تراب على وجه هذا الكوكب الذي يزعجني، ولسوء حظي وحسنه أيضا أنه لا يروقني كثيرا، فهو يجعلني من جهة على قلق مستمر وفي حالة حرج من عدم رؤية الشياء على وجه مرض أو حتى مثبول(ولن أقول الوجه الأمثل)، ولكن ذلك هو الشرط الوجودي لاستمراري في الكتابة… وهذا فبي المطلق أمر لا بأس به.

= هل يجب للكاتب أن لا يحدد فضاءا الكتابات وباتسعات محددة من قبل؟ بمعنى: هل تخطط كثيرا لكتاباتك؟ =
= انا رجل أحب التخطيط، ولكنني لست مجنونا من مجانين المخططات؛ فكثيرا ما تنقلب اللعبة علي ببساطة مضحكة. مخططاتي أوراق طريق، ولكن طريقي نفسه هو أوراق متناثرة ليس لها طريق واضح. تتحول مخططاتي إلى محرك حينا، وإلى مرآة لمعاينة نفسي ومنجزاتي حينا آخر، وأداة عبثية للتأكد من التفرقة الصحيحة بين الهراء واللا-هراء، وتتحول إلى أسباب كافية لرؤية نفسي في ساعات عجزها وساعات اقتدارها أحيانا ثالثة… والخلاصة أنها موجودة وموجودة بإلحاح ولكنها لا تلعب الدور الذي تلعبه المخططات في رسم ملامح عمل ومراحله… بل كثيرا ما تقوم بوظائف مخاتلة مناورة غير متوقعة.
متى يغترب الكاتب عن نفسه، وعن كتاباته، وعن قارئه، وعن الواقع الثقافى ؟ وهل تشعر أحيانا بهذه الغربة؟ ثم… هل يحتاج الكاتب لأن يغترب بعض الوقت، لتكون نظرته ورؤياه أكثر اتساعا وشمولية؟
= هنالك مراحل متأزمة جدا تختلط فيها الأشياء، وهنالك أزمنة عسيرة غير رحيمة بأبنائها، هنالك تجارب الداخل فيها لا يضمن الخروج سالما معافى وعلى الهيأة والحال اللذين دخل عليهما، وهنالك تطورات جذرية في وجهات النظر تكون لأسباب خارجية كالثورات التي تصيب العالم (سواء أكانت ثورات سياسية أمنية دامية، أو ثورات فكرية وحضارية هادئة/ناعمة كالثورة التكنولوجية)… كل هذه الظروف والمعطيات غالبا ما تخلخل سلم القيم لدى الكاتب وتزعزع قناعاته، فيرى نفسه بعيدا عن نفسه في نسختها المعهودة (يغترب عن نفسه)، أو يرى هوة بينه وبين جماعته (الغربة عن الجماعة)، أو حتى يرى لا جدوى ما يفعله، أو يجد أن ما قد كتبه قد أخطأ القصد أو دعا إلى شيء لم يعد صحيحا ولا صالحا… أو …أو … (وهنا يتم الانكفاء داخل الذات في نوع من الغربية عن النص والقارئ أو في محاولة للتوقف عن الكتابة كنوع من محاربة الزيف أو الوهم والادعاء)… أما عن جدوى كل ذلك، فأعتقد أن المسألة لا تطرح هكذا… بل هي مسارات لها إيقاعها الخاص الذي يفرض على الواحد منا فرضا خفيا ولا نختاره بالضرورة…

هل تشعر أحيانا بهذه الغربة؟
= ليس كثيرا؛ لحسن الحظ أو لسذاجتي العميقة… بل اشعر كثيرا بأنني لم أقل ما يجب بالقدر الكافي ولا بالشكل الضروري(لا أنا ولا جيلي)…
من الكتاب والكتابات الذبن تتابعهم بشكل دائم، إقليميا، عربيا، عالميا ؟ =
= كتاب كثيرون، روائيون وفلاسفة وشعراء… لا يمكن ذكر أسماء في هذا الفضاء… ولكنني أعد متابعا جيدا للإنتاج الأدبي والفكري العربي.
إصدار كنت تتمنى لو كنت أنت صاحبة؟
= المتشائل لإيميل حبيبي/ عن الرجال والفئران لشتاينبك/ سيناريو فلم “ذي ماتريكس” للأخوين فاشوفسكي… (ملاحظة: هذه قائمة قلبية آنية؛ بمعنى انك لو أعدت علي السؤال بعد زمن فلربما تحصل على ثلاثة كتب أخرى…ههههه)
ما مشروعك القادم، وما المشروع الذى تصبو لتحقيقة؟
= أنا بصدد مراجعة روايةجديدة من الخيال العلمي سيكون عنوانها “مدينة القديس أوغسطين”… رواية معقدة مركبة واسعة المشارب الثقافية الفلسفية والفنية، وكثيرة التقليعات أتمنى أن تجد قارئا مستعدا لمعانقتها.
هل للكاتب عمر ليتوقف، ومتى أنت تحديدا ممكن ان تتوقف؟ =
= في أية لحظة… تراودني كثيرا الفكرة بأنني ربما اقتربت من أن أكون قد أتممت رحلتي… ولكنها ربما لا تعدو أن تكون وساوس مرض القلب او بعض الأمراض الأخرى… سن التوقف هو عتبة نفسية يشعر بها الكاتب نفسه. في العام الفائت اصدر كل من الفيلسوفين: الفرنسي إدغار موران (100 سنة) والأماني يورغن هابرماس (94 سنة) كتابا ضخما لكل منهما… ومنذ سنوات أخرج المخرج البرتغالي مانويل دي أوليفييرا فلما وهو يحتفل يعبد ميلاده المائة وثمانية… لا أعتقد أن السن مسألة حسابية…بل هي مسألة شعور بالجدوى واستجابة لطاقة داخلية لها منطقها الخفي.

ما رأيكم بالفاعليات الثقافية، والجوائز، هل ترى ضوابطها تتخذ البوصلة الصحيحة؟
= أعتقد أن الجوائز تحديدا قد سممت الجو الثقافي العربي… هنالك حركة موسعة لشراء الذمم، وحركة سيئة لتسيير الذوق والايدولوجيا حسب إملاءات تمثلها أذواق اللجان (وربما يكون الأمر مخططا له بشكل عميق وعير محسوس)… ودليل ذلك عودة بعض الميول والرؤى بشكل منتظم عبر الأعمال المجازة، أسماء الكتاب الواردة دائما على قوائم الجوائز، الأحكام التي تتناثر باستمرار على المقالات النقدية والتعليقات ومراجعات الكتب… الخ الخ كانت أفضل بكثير بوم كانت هنالك جوائز الدول التقديرية التي تأتي لكي تكلل مسيرة كاتب أثبت نجاعته مع الوقت… كاتب قلما يختلف اثنان في قيمته الأدبية…

لو شاءت الأقدار أن تتبوأ منصبا ثقافيا بمنحك القدره على إتخاذ قرارات وتوصيات تنهض بالشأن الثقافى، ماذا تضع باجندتك؟ =
= القراءة- التنافس النظيف- إدراج الكتب بشكل موسع في المنظومة المدرسية- الزج بالكتب والكتاب وبالأفكار في البرلمان، والمدارس والميديا بشكل موسع…والعمل على دمقرطة التسيير في كل القطاعات الثقافية:أهل المهنة هم من يعينون المسؤولين لا الحاكم أو المسؤول…(وهذا المقترح له معنى واحد طبعا: هو أنني لن أتبوأ منصبا هاما في بلداننا العربية المتخلفة التعيسة).

أريد منك أستاذ فيصل رسائل قصيرة إلى:
. * المثقفين العرب: الحياة اوسع من حياة واحد منا فقط… والثقافة ليست مسألة شخصية أو قومية بل هي رسالة متعالية على الزمني والاقليمي والمصلحي.
. * المدارس النقدية: الجميل عار للمدارس فلا تغلقي الباب بإحكام هكذا سينتهي الجميل بهدم الحائط كله.
. * الكتاب والكتابات: المجد للنص ولفعل الكتابة… أما الأحكام والآراء فأعشاب على أرض الكتابة منها الضار ومنها النافع.
. * الأبواق الإعلامية: في مزبلة التاريخ كثير منكم… وفي جراب النسيان كثير جدا منكم…
. * المؤسسات الثقافية: تسمية ذات شجون.
. * إليك أتت: لقد حاولت مرارا ونتائجك في نهاية المطاف لا بأس بها أيها التلميذ الغبي… ادخل جنة النص راضيا مرضيا.

لو كان لك أن تنتمي إلى جيل آخر عدا جيلك، أي جيل ستختار يا ترى؟
= لي حب مرضي لجيل كتاب ما بين الحربية العالميتين سواء عربيا أو عالميا… أعتقد أنني لو خيرت لكنت عشت في تلك المرحلة لا في غيرها.

قد يعجبك ايضآ