حجة الوداع 1 بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى

حجة الوداع 1

بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى

مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف

يقول الدكتور زغلول النجار متحدثاً عن حجة الوداع :

يقول ربنا تبارك وتعالى فى محكم كتابة:
﴿…وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 97).

حجة الوداع 1

و الحج لغة هو القصد للزيارة أو السفر، وفي الشرع هو قصد بيت الله الحرام لأداء النسك الذي جعله ربنا تبارك وتعالى حقا لذاته العلية على كل مسلم بالغ عاقل حر مستطيع، ولو لمرة واحدة في العمر، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، وفرض من الفرائض المعلومة من الدين بالضرورة منذ القدم كما يتضح من النقاط التالية:

(أ) قدم البيت الحرام:
أمر ربنا تبارك وتعالى ملائكته ببناء الكعبة المشرفة على أول جزء تكون من اليابسة استعدادا لمقدم أبينا ادم عليه السلام، وفي ذلك يقول أبوذر رضي الله عنه: “قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع فى الأرض أول؟ قال المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال المسجد الأقصى، قلت كم بينهما؟ قال “أربعون سنة، وأيما أدركت الصلاة فصل فهو مسجد”.
وقال المصطفى ﷺ: “كانت الكعبة خشعة على الماء فدحيت منها الأرض”.
“دحيت الأرض من مكة، فمدها الله تعالى من تحتها فسميت أم القرى” (الهروي/ الزمخشري).
وفى شرح هذين الحديثين الشريفين ذكر كل من ابن عباس رضي الله عنهما وابن قتيبة أرضاه الله، أن مكة المكرمة سميت باسم “أم القرى” لأن الأرض دحيت من تحتها لكونها أقدم الأرض.
والدحو فى اللغة هو المد والبسط والإلقاء، وهي كلمة جامعة للتعبير عن ثورة البركان الذي يوسع من امتداد طفوحه البركانية كلما تجدد نشاطه وذلك بإلقاء مزيد من تلك الطفوح.

حجة الوداع 1

كذلك أخرج كل من الطبراني والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفا عليه أنه (أي البيت الحرام) كان أول ما ظهر على وجه الماء عند خلق السماوات والأرض زبدة (بفتح الزاي) أي كتلة من الزبد بيضاء فدحيت الأرض من تحته.

حجة الوداع 1

وتأتي المعارف المكتسبة في مجال علوم الأرض لتثبت أن الأرض غٌمرت في مرحلة من مراحل خلقها الأولى غمرا كاملا بالماء، ثم شق الله تعالى قاع هذا المحيط الغامر بعدد من الخسوف الأرضية العميقة فانبثقت منها الثورات البركانية العنيفة التي ظلت تلقي بحممها فوق قاع هذا المحيط الغامر لتكون سلسلة جبلية طويلة ظلت ترتفع بالتدريج حتى برزت أعلى قمة فيها فوق مستوي سطح الماء مكونة أول جزء من اليابسة التي نعرفها اليوم على هيئة جزيرة بركانية صغيرة شكلت أرض الحرم المكي المبارك. وباستمرار النشاط البركاني فوق قاع هذا المحيط الغامر نمت هذه الجزيرة البركانية بعملية الدحو (وهو المد والبسط والإلقاء كما تفعل ثورات البراكين عادة) لتكون اليابسة على هيئة قارة واحدة تعرف باسم القارة الأم (أو أم القارات). ثم فتت الله تعالى هذه القارة الأم إلى القارات السبع التي نعرفها اليوم، وأخذت هذه القارات تنزاح متباعدة عن بعضها البعض إلى مواقعها الحالية، باستمرار عملية زحف القارات، مع بقاء مكة المكرمة في وسط اليابسة، ولذلك سماها القرآن الكريم باسم (أم القرى).
وكل من آيات القرآن الكريم، وأحاديث المصطفى ﷺ تشير إلى أن مكة المكرمة ليست فقط في مركز يابسة الأرض، بل هي في مركز الكون كله انطلاقا من أقوال خاتم الأنبياء والمرسلين صل الله عليه وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين التي منها ما يلي:

(1)” البيت المعمور منا مكة” (أخرجه الأرزقى فى أخبار مكة).
(2)” البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضُرَاح وهو بحيال الكعبة” (رواه البيهقى فى شعب الإيمان).
(3)” يا معشر أهل مكة إنكم بحذاء وسط السماء” (رواه الفاكهي فى أخبار مكة).
(4) “إن الحرم حرم مناء من السموات السبع والأراضين السبع”.
أثبتت دراسات علوم الأرض وجود سبعة نطق متمايزة في أرضنا، يغلف الخارج منها الداخل فيها.
والكعبة المشرفة في وسط الأرض الأولى، ومن دونها ست أرضين، ومن حولها سبع سماوات متطابقة (أي يغلف الخارج منها كل الداخل فيها)، وذلك لأن القران الكريم يشير إلى مركزية الأرض من الكون بمقابلة الأرض (على ضآلة حجمها) بالسموات (على ضخامة أبعادها)، وبالإشارة إلى البينية الفاصلة للأرض عن تلك السموات السبع المتطابقة (أي: التي يغلف الخارج منها الداخل) وذلك في عشرين آيه قرآنية صريحة، وكذلك يجمع أقطار السموات والأرض على ضخامة الأولى وضآلة حجم الثانية، وذلك في قول ربنا تبارك وتعالى:

*يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ* (الرحمن: 33)، وهذا لا يمكن أن يتم إلا إذا كانت الأرض في مركز السموات السبع.

وتشير الآثار إلى أن الكعبة المشرفة كانت قد هدمت قبل بعثة نبي الله إبراهيم عليه السلام وبقيت قواعدها، فبوأها الله تعالى له وأمره بوضع زوجته السيدة هاجر، ورضيعها إسماعيل عند مكان البيت كي يعيدا بناءه بعد أن يبلغ إسماعيل أشده وذلك من أجل أن يأتي خاتم الأنبياء والمرسلين صل الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين من نسل إسماعيل عليه السلام، فيولد بمكة المكرمة أشرف بقاع الأرض على الإطلاق التي نزل بها أول الخلق، وأول الأنبياء، آدم عليه السلام فيلتقي خاتم النبوة بأولها، تأكيدا على
وحدة رسالة السماء وعلى الأخوة بين الأنبياء، وعلى وحدانية الخالق سبحانه وتعالى.

(ب) حدود الحرم المكي:
وللحرم المكي حدود حددتها الملائكة لأبينا آدم عليه وسلم ثم لأنبياء الله من بعده إلى خاتمهم أجمعين ﷺ، وهذه الحدود معلمة بأعلام لا تزال موجودة إلى اليوم مع تجديدها باستمرار، وهذه الحدود منصوبة في جهات خمس على النحو التالي:
1- الحد الشمالي للحرم المكي عند التنعيم على بعد 6 كم من مكة المكرمة.
2- الحد الجنوبي عند قرية “أضاه” على بعد 12 كم من مكة المكرمة.
3- الحد الشرقي عند “الجعرانة” على بعد 16 كم من مكة المكرمة.
4- الحد الغربي عند الحديبية “الشميسي” على بعد 15 كم من مكة المكرمة.
5- الحد الشمالي الشرقي عند “وادي نخلة” على بعد 14 كم من مكة المكرمة.
وبذلك تصبح مساحة الحرم المكي قرابة ستمائة كيلومتر مربع في وادٍ يبلغ طوله حوالي 31 كم وعرضه حوالي 18 كم.

(جـ) قدم عبادة الحج:
الحج عبادة قديمة شرعها الله تعالى لأبينا آدم عليه السلام لحظة خلقه، كما شرعها لذريته من بعده، ولجميع من أرسل لهدايتهم من الأنبياء والمرسلين. فمن الثابت من أحاديث رسول الله ﷺ أن جميع الأنبياء والمرسلين والصالحين من عباد الله قد قدموا إلى الحرم المكي الشريف لأداء شعيرتي الحج والعمرة، ومن ذلك أقواله التالية:
• “ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيا جاءوا حجاجا فقبروا هناك” (القرطبي).
• “كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة هو ومن آمن معه فتعبدوا بها حتى يموتوا” (القرطبي).
• “كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق بمكة، فيعبد الله تعالى ومن معه حتى يموت، فمات فيها نوح وهود وصالح وشعيب، وقبورهم بين زمزم والحجر” (الطبري).
• “في مسجد الخيف قبور سبعين نبيا” (رواه الهيثمى ووثق رجاله).
• “حج خمسة وسبعون نبيا كلهم قد طاف بهذا البيت، وصلى في مسجد منى”.
• “إذا كنت بين الأخشبين من منى- ونفخ بيده الشريفة إلى المشرق- فان هناك واديا يقال له وادي السرر، به سرحة سر تحتها سبعون نبيا” (أي أنهم ولدوا تحت تلك السرحة).

“وما من نبي من الأنبياء ولا رسول من الرسل إلا قد حج البيت الحرام، وطاف به، ووقف على المشاعر المقدسة في هذه البقاع الطاهرة، فلما كان إبراهيم عليه السلام بالشام أراه الله عز وجل البيت وبوأه له فخرج إليه من الشام، ومعه ابنه إسماعيل وزوجه هاجر أم إسماعيل الذي كان طفلا صغيرا ترضعه”.

يتبع ..

قد يعجبك ايضآ