اِشتراك… قصة قصيرة

واقفاً كنت فوق رصيف محطة قطار” طهطا ” الأرصفة تتساقط عليها رذاذ مطرٍ خفيف والمحطة شبه خاوية,

انقبعتُ في ثيابي , احتضنت حقيبتي , منكمشاً في نفسي من شدة البرد …. انا الان في شهر طوبى

الوقت قبل شروق الشمس بدقائق, نظرت في ساعة المحطة , مللت الانتظار ,

توجهت لناظر المحطة أسأله عن تأخر القطار الروسي الذي سأركبه ,

طمئنني بكلماته المعتادة التي أكاد أجزم أنه يقولها لكل السائلين عن مواعيد قطاراتهم ويحفظها عن ظهر قلب

ــ القطار سيصل بعد دقائق

شكرته ورجعت إلى حيث كنت , الجو صقيع جداً , وأنا أريد الذهاب إلى جامعتي هذا اليوم

كي أقوم بتسديد مصروفات الجامعة , وأستخرج الكارنية الذي أبوا أن يعطوه لي إلا إذا سددت المصروفات ,

ابتسمت في نفسي تذكرت , ما قاله لي أبي ذات مرة : ..

ــ الكرنيه كان على أيامنا بنصف جنيه فقط لا غير ..!

ــ ……………

بالأمس كاد يمنعني حارس الأمن على البوابة من الدخول لولا تواجد العميد قدراً, فهو يعرفني معرفة جيدة ..

فكثيراً ما أذهب الى مكتبه كلما عنى لي أمر ما أو استعصى علي ,

ــ يا رب يسر لنا الأمر .. وأجد الموظف المختص بالخزانة حتى أورِّد له المصروفات ..

وأجد شؤون الطلبة موجودين حتى يعطوني الكارنيه الذي يثبت أنني مقيد بالجامعة

أشعة الشمس بدأت في الظهور, والقطار لم يظهر بعد .

الشمس تسحف بأشعتها البرتقالية فوق الرصيف .. وامتنع المطر ..

تذكرت صديقي “حازم” الذي واعدته بأننا سنتقابل هذا اليوم في فناء الجامعة وسوف

ندفع سوياً مصروفات الجامعة, وسنمضي اليوم معاً , نتحدث كعادتنا عن المواد التي ندرسها ,

والجدول والمحاضرات وعن طموحاتنا ,

وسوف نتناقش في بعض الأمور المشتركة بيننا, وسيعرض كل منا وجهة نظره بالتأكيد ,

وسنتمشى معاً في محافظة ” أسيوط ” تلك المحافظة الكبيرة الجميلة التي يسكنها “حازم ”

والتي يطلقون عليها “عروس الصعيد ” لجمالها ونظافتها ونضارتها ,..

تصطدم عيناي بأشعة الشمس وهي مقبلةٌ نحوي .. وأنا متربصاً قطاري أن يأتي ,

المحطة بدأت تظهر فيها الكتل البشرية, والرصيف راح يمتلئ بالوجوه الغريبة التي لا أعرفها

وجدتني خرجت من مكاني الذي كنت اختبأت فيه من المطر,

تصفحت الوجوه التي تمر من امامي لعل وعسى أجد أحد الزملاء ليشاركني رحلة القطار ..

وتجولت على الرصيف بحثاً عن أحد لكنني فشلت ..

وأخيراً جاء القطار يزمجر من بعيد بصوته المحبب إليِّ مخترقاً الضباب الكثيف وقد طوي المسافات البعيدة ،

 

نظرت في ساعة المحطة كانت تشير للساعة السابعة صباحاً ,..

لقد تأخر عن موعده إذاً ، لا بأس ، فمازال هناك متسعاً من الوقت ، تأهبت للركوب ,..

وحالما وقف القطار أمامي ارتديت العربة الأولى, ثم انزويت بإحدى العربات بعيداً

عن الجميع في مقعد بجانب نافذة مؤصدة ولا أحد يجلس في هذا المكان غيري,

أنا وحقيبتي التي لم أنسى أن أملأها ببعض الكتب والروايات كي تسليني في ساعات السفر

وكي لا أشعر بالوقت بتاتاً وأنا أغوص في عالمي الخاص الذي صنعته لنفسي في تلك اللحظة ………

أنظر من النافذة نحو الحقول الخضراء ، والشمس تفرش عبائتها على المدى الفسيح ،

الناس تعدو وتروح ، والبيوت تستيقظ من سباتها ، وأولاد المدارس بزيهم المميز الجميل يملؤون الشوارع ,

والقطار ينساب وسط المزارع والحقول الخضراء الشاسعة , وانا جالس في مكاني في سكون ,

والوقت يمضي سريعاً, والقطار يلتهم المحطة تلو المحطة وكأني أشاهد فيلم تسجيلي

(( جرافيك )) قصير جداً يشارف على الانتهاء ، ..

وبينما أنا في منتصف المسافة أردت أن أُخرج كتاباً لأقرأه ، قمت , أمسكت حقيبتي ،

تذكرت كلام أبي الذي دائماً يقوله لي :

ــ خلي بالك من كُتبك ، وانتبه لنفسك ، ومحفظتك ، وإياك تنسى حاجتك .

” أبي رجل طيب القلب , لكنه عصبيٌ جداً, وذلك إذا حدث ما يستدعي غضبه,

لكنه طيب القلب ولا يؤذي أحداً وأنا أحبه كثيراً جداً, وهو يحبني أيضاً ” ..

أخرجتُ كتابي , مسكته في يدي, تحسست جيبي لأتأكد أني لم أنسى شيئاً كما قال لي أبي,

الجيب خاوي, بحثت في جيبٍ أخر, أدخلت يدي, فخرجت يدي خاوية …..

ــ لا لا مستحيل أنا أخذتها معي .. كيف ذلك .. أين ذهبت .. بحثت في حقيبتي التي

فيها كتبي لربما وضعتها فيها وأنا لا أدري .. فلم أجدها .. جن جنوني ..

ــ أأكون قد نسيتها .. ؟!.. هل وقعت مني .. ؟! .. أين ذهبت إذاً ..؟!!!

رأيتني واقفاً في حيْص بيْص , أكلم نفسي , وقد عبس وجهي, وشحب لوني , وتغيرت ملامحي فجأة : ..

ــ لا لا مستحيل , كيف حدث هذا ..؟! , لابد أن في الاًمر شيءً , هل بالفعل نسيتُ محفظة نقودي !!!

وفيها كل شيء .. ماذا أفعل بحق السماء..؟؟

وأخذت أعنف نفسي وأوبخها وأكيل لها الشتائم وأنعتها بالجنون والغباء ,

فبطاقتي الشخصية ونقودي وأوراقي المهمة الخاصة واشتراك القطار والمبلغ الكبير

الذي سأدفعه للجامعة كل ذلك غير موجود معي .. عصرت ذهني , تذكرت ,

ــ لقد نسيت اشتراك القطار.. !!

” يا إلهي ماذا سأفعل الأن , وماذا سأقول إذاً جاء الكمسري وسألني, وبماذا سأجيبه ,

وماذا عساي أفعل إن علِم أنني لا أحمل تذكرة ولا اشتراك وليس معي بطاقة,

هويتي الشخصية ..؟. هل سيتركني إن قلت له نسيتها في البيت, هل سيصدقني لو كذبت عليه,

وقلت له فُقدت مني، أو وقعت , أو سُرقت مثلاً , هل سيتركني وشأني ؟؟!..

أم سوف يطلب لي أمين شرطة ويخبره بأمري, ويطلب منه أن يتحفظ عليَّ ليسلمني على

أقرب محطة ليحرروا لي محضراً ويحبسني ثم يرحّلوني إلى قسم الشرطة للتحقيق معي ,

ثم أُرحَّل إلى بلدي حتى يأتي إلي أهلي ليقوموا باستلامي بعد ما يدفعوا لي الغرامة ..

هل سيصدقني الكمسري إذا أخبرته بالحقيقة.. وقلت له بأنني نسيت محفظتي,

وهل سيتعاطف معي أم لا ” ,

وظلْت أضرب كفاً بكف .. ورحت أضرب أخماساً في أسداس واحتمالاتٌ كثيرة دارت في رأسي

وبدون وعيٍ مني قمت بالاتصال بأمي لأخبرها بأمري , وبأنني إذا تأخرت عن الرجوع للبيت تقوم فوراً بإخبار أبي بالأمر ,

لربما يحدث شيءً لا قدر الله ، وأغلقتُ الهاتف ..

ثم في الأخر أقنعت نفسي بأن الأمر أبسط من هذا بكثير ؟! .. وربما سيفرجها الله من عنده,

ولا أظن ذلك سيحدث منه شيئاً ” وتذكرت قول الشافعي :

ولرب نازلة يضيق لها الفتى .. ذرعاً وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها .. فُرجت وكنت أظنها لا تفرج

وتذكرت قول الله عز وجل (( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ))….

ــ سيأتي كمسري القطار وسيسألني عن التذكرة , وسأجيبه بالصراحة ,

ورحت أفكر فيما سيحدث .. وماذا سأصنع في هذا الموقف الصعب ..

فأنا أول مرة يحدث معي مثل هذا .. وشعرت بالتوتر , والقلق , والخوف ……..

” أظن أن أمي ستخبر أبي , وبالتأكيد سيفقد أبي أعصابه , إن علم ما يحدث معي الأن ،

وأكيد سيقلق عليَّ , وسيشتد غضبه على أمي , وربما يأتيني بسرعة البرق ينتشلني

من ذلك المأزق الذي أنا فيه الآن, والذي أحاول أن أخرج منه ولكني لا أعرف …

موقف لا أحسد عليه … إطلاقاً ….

وللحظة تخيلت أبي كالرجل الخارق للطبيعة وكما يحدث في أفلام ” الخيال العلمي ”

وهو يطير في السماء ويسابق القطار ويلحق بي ، ليخلصني مما أنا فيه الآن ..

” يا للهول ماذا أقول .. لقد أفسدت تلك الأفلام علي حياتي, تلك الأفلام الخيالية

التي أنا مولع بها أفسدت عقلي .. كيف عبثت تلك الأفكار المجنونة برأسي, وأنا في هذه الورطة ،

كل ما عليَّ الآن هو أن أفكر جيداً ماذا أفعل حالما يأتيني الكمسري ،..

وبينما أنا شارد الذهن، إذ باثنين من أمناء الشرطة جاءا وجلسا بجانبي على المقاعد الفارغة ،

فقلت في نفسي ، بعدما ابتسمت لهما ورددت عليهما , السلام :

ــ كملت من كله ههه ..

رأيت الكمسري يقترب تجاهي فشعرت بالخوف .. عَلت دقات قلبي ، وتسارعت أنفاسي ،

لكني تمالكت أعصابي, وحافظت على الثبات الانفعالي .. ودعوت الله في نفسي ..

وهو يدنو مني شيئاً فشيئاً.. فنظرت لمن بجواري وقلت في نفسي .. وجودكما الآن إما نعمة , أو نقمة ..

” وكما قرأت بعلم النفس وعلم لغة الجسد فما حدث بظاهري كان خلاف باطني

من القلق والتوتر ولكن البشر جميعاً لهم الظاهر ويتصرفون على ما يرون,” …

ها هو الكمسري يقف فوق رأسي الآن .. ولا مفر, ولات حين مناص ..

نظر إلي وهو يُلقي السلام على صاحبي البدلة الميري .. وسألني عن التذكرة

ــ …………..

هو في الغالب يترك الجالسين بجانبهم ويمر دون أن يسألهم عن تذاكرهم إكراماً للضباط

ولكن لسوء حظي أنا جاء ليسالني عن التذكرة ، فأجبته بصوتٍ واثقٍ جداً في نفسي ،

وتمالكت أعصابي ، وبنظرةٍ ثابتة , وبأسلوب دبلوماسي, لبق، وبثبات انفعالي , قلت له :

ــ اشتراك

قلتها كما لو كنت أقلعها من جبل .. فأنا أول مرة أفعلها .. قلتها له وانتظرت ماذا سيفعل ..؟!

ومرت الدقائق بل اللحظات بطيئة, وثقيلة جداً, وأنا أدعو الله في نفسي, أن يخرجني من هذا المأزق الصعب ,

وهو يتفحصني بعينيه الغائرتين الحادتين،

” أنا معي بالفعل اشتراك, ولكني نسيته في البيت, انا طالب جامعي, في الفرقة الثالثة ،

وبرغم أن أبي كثيراً ما يحذرني من النسيان .. ومع ذلك نسيته بالمحفظة , والفلوس ، وهويتي أيضاً، “…

الدقائق مرت على دهوراً, وهو واقف يتحدث مع أحدهم .. ثم انصرف ، فابتلعت ريقي وأخرجت منديلاً ورقياً ،

وحمدت الله تعالى على أنه نجاني من هذا الموقف الصعب..

ولم أكد أصدق ما حدث حمدتُ الله كثيراً لحظتها لوقوفه معي وأنه فرَّج همي بعد غمي وشكرته

أيضاً أن ألهمني بهذا التصرف …

وشعرت لحظتها أنه تم الإفراج عن مسجون بعد أن تحقق إعلان براءته من تهمة نكراء كادت أن تودي بحياته ،…

حالما استفقت من نشوة سعادتي رحت أتذكر صديقي الحبيب توأم روحي ” حازم ” ..

” ذلك الرفيق والأخ والصديق القريب الذي عهدته دائماً شهماً نبيلاً يصدع بالحق لا يداري

ولا يماري ولا ينافق ولا يكذب ويتحلى بصفات كثيرة مشتركة بيننا بل إن شئت

قل إنه أخاً لي لم تلده أمي, أخاً رائعاً أنجبته لي الحياة من صدأ الصداقات المزيفة

في هذا العصر الذي نادراً ما تجد فيه صديقاً مخلصاً وفياً فهو يحترمني جداً وكذلك أنا

ويعرف أبي وأبي يعرفه كذلك ويثني عليه خيراً ، يطبق أخلاق كليتنا “أصول الدين” التي زرعتها بداخلنا ,

فنحن طلاب “الأزهر الشريف” الذين ينبغي أن نكون أسوة لأهلنا, وذوينا, وكل من حولنا, ” ….

اتصلت بصديقي حازم أن يأتي لي فوراً عند المحطة وبالفعل جاء إليَّ وأخبرته بكل ما حدث،

لم أدري وقتها هل أضحك على حالي ككوميديا سوداء أم أشفق على نفسي، وقتها …

قلت له :

ــ ينبغي على أن أعود الآن إلى البيت, إنني لن أستطيع الذهاب معك إلى الجامعة,

فكما تعلم ليس معي حافظتي ..

لكنه أقنعني بأن أرافقه إلى الجامعة, وبأنه يفتقدني كثيراً , ويريد التحدث معي في مواضيع كثيرة جداً,

وذلك إلى أن يأتي موعد قطار العودة, وبالفعل اقتنعت, وذهبت معه , ..

وفي الطريق تجاذبنا أطراف الحديث, والحوار, وأخذنا النقاش, والجدال, كالعاد على أبسط الأشياء وأكبرها ,

وهذا ما هو معروف بين الصديقين اللذين يعتبرا بعضهما البعض إخوة بل وأكثر من ذلك ..

ومضت الساعات بيننا وكأنها دقائقٌ معدودة قضيناها في حوار ونقاش وجدال في كل شيء,

وعندما عدنا إلى محطة القطار، قطع لي تذكرة العودة, وودعته وانصرف كلاً لحال سبيله ..

ولم تمضي ساعةٌ حتى جاء القطار الذي سأعود فيه إلى بلدي الحبيب ” طهطا ” …

ركبت القطار, ألقيت نفسي بداخله, والمنتظرين على الرصيف, فلم ينطلق حتى جذبهم بداخله جلستُ مكاني,

أسلمت أبعاضي على مقعدٍ بجانب النافذة , وأنا أشبه بورقةٍ ذابلة ….

وكان الشفق يملأ صفحة السماء في جوٍ مفعم بالجمال ويسكنه الهدوء, ولكن عقلي لا يهدأ ولا يكف عن التفكير ,

برغم أنني منهكٌ تماماً ، وكنتُ في حيرة من أمري .. أٰفكر ..

ــ تُرى هل أخبر أبي الحبيب بما حدث أم لا …!؟

….

قد يعجبك ايضآ